كيف تتحوّل الوحدة إلى ملاذ للذات ومحراب للروح



في فترةٍ ما، عندما كانت حياتي ممتلئة بالحضور والصخب، كانت الوحدة ضيفًا ثقيلًا يتوارى خلف الباب.
لم يسبق أن جالستُ وحدتي قبل الآن، لم يسبق أن أطلتُ النظر في عينيها.
كنت أراها شبحًا يجب الفرار منه قبل أن يتلبّسني.
كان الصخب الذي أُحيط نفسي به درعًا أرفعه في وجهها.
لكن مع مرور الأيام، صرتُ أُقاد نحوها كصخرةٍ تتدحرج من أعلى التل، بلا حقٍ في الاختيار.

عندما جاءت لحظة السفر، كانت الوحدة أول الراكبين في الطائرة.
جلست إلى جواري، وضعت يدها في يدي وابتسمت.
عرفتُ حينها أن طريق الهروب ما عاد مفتوحًا أمامي.
في مثل هذه اللحظات، التي يبتعد فيها المرء عن كل ما يألف ويحب، ترافقه الوحدة كظلٍّ يمشي جنبًا إلى جنب معه — لا خلفه ولا أمامه.
ومما تعلّمته وأدركته في رحلة حياتي، أن كل ما يحدث لنا، يحدث لأجلنا، وليس ضدّنا.
وأن كل ما علينا فعله هو أن نسمح، نتفكر، ونبحث عن المعنى والغاية.
عندها، عندما صمتت جميع الأصوات من حولي، واختفت كل الوجوه،
كنت أراني… أنا مأوى في كل شيء حولي.
صارت وحدتي خلوتي.
كنت أجلس صامتة بالساعات، أنظر لانعكاسي في مرآة الكون.
أنظر فحسب… للهروب، للخوف، وللوحدة التي ظننتها خارجي، لكنها كانت داخلي منذ البدء.
في لحظات الصمت والحضور الحقيقي، نستطيع أن ندرك ما لا ندركه وسط الضجيج.
قد لا يكون الضجيج قادمًا من الخارج بالضرورة، لكن عندما نسمح، ونقبل، ونتقبّل… يهدأ كل الضجيج.
لنرى الصورة الأصلية والحقيقية لكل شيء، بدءًا من ذواتنا التي ذابت طويلًا وسط الجموع.
أدركتُ في تلك الفترة أننا بحاجة للوحدة أحيانًا، ليذوب، ويزول عنّا كل ما ليس لنا.
كنتُ أتخيل في لحظات حضوري معها، أنني أقف على أرضٍ واسعة، فضاؤها مرآة.
أرضٌ أعيش فيها بأصالتي الخاصة، بأفكاري الخام النابعة من داخلي.
أرضٌ آمنة أعيد فيها إبتكار نفسي كل يوم.
كلّنا نحتاج لمثل هذه الأرض: حيث نحن كما نحب ونريد، لا كما يريد الآخرون.
احتضانك لوحدتك يجعلك شخصًا قادرًا على صنع ذاته بالشكل الذي يحب، ويرضي ربه.

في أثناء كل هذا، كان الله هو رفيقي، وطريقي، ووجهتي.
أدركت حينها أن كل هذا كان لأجل أن أصل إلى هذه اللحظة…
لحظة أغرق فيها بحبه وسلامه.
جعلني هذا أكثر حضورًا مع نفسي، ومع الوجود بأكمله.
من خلال الوحدة، أصبح قلبي يذوب حبًا وخشوعًا.
ومن خلالها أيضًا صحّحت بوصلة حياتي، ووجّهتها نحو النور، والحب،
ونحو ربي…
حبيبي، أولًا وآخرًا.

وأنت، عزيزي القارئ…
هل سبق وأن صحّحت الوحدة بوصلتك؟

تعليقات

  1. شكرا لك مأوى على مشاركتك لنا ما مررتي به ، حروفك تفتح لي افاق الفهم نحو نفسي بل ان كلماتك تكاد تكون مرآتي التي أرى نفسي فيها بشكلٍ ما ، ان لم تكون كذلك اصلا .
    فعلا انا كمان قاعدة امر بنفس الحالة تقريبا رغم الشعور المرير الي احس به كل يوم احس اني اخيرا تقبلت وحدتي ومستعدة اتصالح معها ، ما كنت رح أقدم على ذلك لو ما اضطريت بس ادركت ان الشي هذا كان لازم يصير ومن زمان .

    ردحذف
  2. مؤلم وجميل في بنفس الوقت .💔

    ردحذف
  3. عندما تكتبين يامأوى أتعجب كيف تأوى إليك هذه الجمل كيف تنساب هذه التشبيهات البلاغية بين أناملك ماشاءالله لا قوة إلا بالله تكتبين فتدهشين وتثرين استمممري 💗

    ردحذف
  4. أكثر من رائع 🌹😍

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة